الحكاية الثالثة عشر: ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة

منذ بدأت تعلم التصوير، كنت قد اتخدت قرارًا بعدم الوقوع في ابتذال تصوير المشرديين والمعدمين في الشوارع. إلا أن بعضهم نجح في لفت انتباهي. هنا سأشارككم قصص ثلاثة مواقف في ثلاثة أماكن مختلفة على مدى ثلاث سنوات.

*****

التاريخ: الجمعة، 1 فبراير 2013.
المكان: خلف جامع الأزهر، حي الجمَّالية، القاهرة. 

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

عند الأزهر، حيث الضواحي القديمة، والشوارع الضيقة المختبئة خلف المساجد العتيقة، قابلته. قامة ضئيلة للغاية، بالكاد يتجاوز طول تلك السيارة بجواره. يلهو بعنف طفولي مع كلبين حجم كل واحد منهما يفوق حجمه هو. 

هؤلاء المهمشون، الذين من الصعب تميزهم وسط أقدام المارة المُسرعة، وأصوات الباعة، وطَرقات النحاس، وروائح البخور، وتلاوات القرآن والتواشيح، والماء المتراكم منذ ليلة ممطرة غسلت القليل من الرماد والبؤس الباهت على كل شيء.

هم من لم تصل إليهم القسوة بعد، تجد ذلك التواصل بينهم مهما كان اختلافهم في التكوين واللغة. تجد التواصل والتعاطف واللعب دون كلمات خارج نطاق اللغة والمنطق. تجد مشاعر مجردة يفهمها كلبٌ ضخم جعلته يتفهم لعب طفلٍ صغير يجري حوله في مرح عنيف. كلب فهم مشاعر طفلٍ ساذج في لحظة لعب. طفل آخر مهمش، والصمود في أجمل وأبسط صوره.

*****

التاريخ: الأربعاء، 19 ديسمبر 2012.
المكان: شارع المعز لدين الله الفاطمي، القاهرة.

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

سأخبركم سرًا، أحيانًا أمُر بالناس في الطريق وأتخيل قصصهم. تمامًا كما ذكر بطل فيلم Her:

"Sometimes I see people, and I make myself trying to feel them more than random person walking by. I imagine how deeply they've fallen in love, or how much heartbreak they've all been through"

هذه صورة من الصور التي لا أذكر كثيرًا من كواليسها.. لذا، فلنحاول التخيل سويًا:

أنت: أنت تستيقظ، ثم تغتسل، ثم تشرب قهوتك على صوت المذياع، أو صور التلفاز، أو حتى في صمت. تذهب إلى عملك من نفس الطريق الذي اعتدته، وتُلقي تحياتك الصباحية على نفس الزملاء. كل شيء ممل ولكنك لا تدرك ذلك ولا تشعر بشبح التكرار. ليصبح الروتين جزء منك، كتسريحة شعرك، أو عطرك المفضل.

هو: هو يستيقظ مبكراً ليسير الأمتار حتى يقف في طابورٍ بين روائح المخبوز وعرق البسطاء. روائح تعود عليها، لا تضايقه ولا يدركها، لأنها أصبحت جزء منه. كسروالٍ قديم أو حذاءٍ مقطوع.

هو، يحمل المخبوز فوق رأسه ليسير به عبر المدينة القديمة، حتى يجد مكانه الخاص الذي اختاره بلا منطق يُذكر، ليجلس هناك ويلقي التحيات على أصحاب المحلات المجاورة كما كنت تلقيها أنت على زملائك الأعزاء. يجلس ليستدفيء بشمس الشتاء التي تحنو عليه للحظات من قسوة الروتين و طول الانتظار.

هي: هي ربة البيت المنهكة. تنزل من بيتها كل صباح لتلقي سلاماتها الصامتة على حامل الخبز، وتقف للحظات تختار فيها الخبز المناسب لذوقها. وبعد كلمات سريعة، تحمل كيسًا لتسير إلى منزلها، حيث الأطفال الجائعة، والطبيخ المنتًظر عمله لزوجٍ غائب.

مشهد لغربين في الطريق، لا أعلم حتى اسم أيّ منهما، إلا أن لكل منهما قصة... سواء عرفتها أم لا.. لن يقلل ذلك من أهمية وجودهما في "المشهد". 

*****

التاريخ: الجمعة، 19 ديسمبر 2014.
المكان: شارع 9، حي المعادي، القاهرة.

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

كل المرات السابقة كانت من بُعد.. حتى ذلك اليوم.. كانت هذه أول مرة تتاح لي فرصة أن أحتك بهم وأتعامل معهم عن قرب شديد.

كنا مجموعة من الأصدقاء، لكلٍ منا هوايته، مابين الغناء والعزف والرسم والتصوير. التفَّ حولنا عددٌ منهم، لا يبغون التسول هذه المرة بل وقفوا مشدودين لحركات الموسيقى و جلسة شباب على الأرض بلا اكتراث.

للوهلة الأولى ظننت أني سأرتبك أو أقلق من وجودهم، لكني ما لبثت أن استغرقت في مراقبة طريقتهم في التعامل معنا. 

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

- "عارفه مهرجان الدنيا شمال؟"
- "لأ!" 
- "طيب إحنا هانغنيه"
- "طيب غنو، وإحنا هانطلع معاكم بالمزيكا.. يلا.." (كان ذلك جزء من حوار أحدهما مع حاملة الجيتار)


وكفرقة غنائية أفنت عمرها في الغناء دهرًا بدئا بالإنشاد:

*ركز بقى وإسمع مني .. هقول كلام عمره متقال
وصّل يابا وإسمع فني .. ده مهرجان الدنيا شمال
عندنا موهبة قادرة تغني .. المهرجان والمـوال*

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

صوت مبحوح، مع ضربات الجيتار الخفيفة. أداء جسدي راقص، ووجه بائس متمسك بالعبس رغم تمايل الجسد بحدة جادة كأنه لرجل ناضج لا لطفل.

*واللي ماشي سرحان سكران .. واللي حياته كلها دخان
واللي يدور على الأمان .. و اللي ناسي إنه إنسان
ما الدنيا فيها أشكال وألوان .. فيها القوي عامل غلبان
شوفنا كتير فيها و قسينا .. كتر الخيانة و الغدر بينا
من الصحاب وأقرب ما لينا .. طب مين في الدنيا باقي علينا*

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

بالطبع مر بأذني ذلك المهرجان أثناء مروري بمحل ما، أو انحشاري في ميكروباص ما. لكن هذه المرة الوضع مختلف. مختلف تمامًا! جديتهما المفرطة في الأداء. انعدام المزيكا الصاخبة، وعزف صديقاي الخافت، منح لي فرصة التركيز مع الكلمات. مع تعابير وجههما وتمايل جسدهما.. كنت مبهورة فعلاً!

ثلاثة أطفال قد تلتقي بهم في شوارع القاهرة - الحياة في القاهرة

مع انتهاء اليوم كانت قوانا قد خارت من كثرة إلحاههم في تجربة كل وأي شيء يرونه معنا.. الجيتار، الطبلة، الألوان، الكاميرا... هنا ظهر أثر ما تربوا عليه من اتقان للالحاح حتى يُعطف عليهم بما لهم نصيب فيه. لكن، رغم ذلك، لا أنكر أنها كانت تجربة خاصة بالنسبة لي. أن أرى وألمس الشعرة الفارقه بين فطرة الأطفال، والجشع المُكتسب من قسوة البيئة المُحيطة بهم.

------------
ملحوظة: هذا المقال كتابة مُشتركة بيني وبين الموهوب أحمد زكي.

0 تعليقات :


Copyright © 2012 الحياة في القاهرة